حضرت امام جعفر صادق عليه‌السلام نے فرمایا: اللہ تعالیٰ مومن کے ایمان کو اس کا غم خوار بنا دیتا ہے، جس سے اُسے سکون محسوس ہوتا ہے، حتیٰ کہ اگر وہ پہاڑ کی چوٹی پر بھی ہو تو تنہائی سے نہیں گھبراتا۔ بحارالانوار کتاب الایمان والکفرباب7 حدیث4

اصول الفقہ حصہ چہارم

الباب التاسع: التعادل و التراجيح‏

تمهيد:

عنون الاصوليّون من القديم هذه المسألة بعنوانها المذكور. و مرادهم من كلمة «التعادل» تكافؤ الدليلين المتعارضين في كلّ شي‏ءٍ يقتضي ترجيح أحدهما على الآخر. و مرادهم من كلمة «التراجيح» جمع «ترجيح» على خلاف القياس في جمع المصدر، إذ جمعه «ترجيحات». و المقصود منه المصدر بمعنى الفاعل، أي المرجّح. و إنّما جاءوا به على صيغة الجمع دون «التعادل» لأنّ المرجّحات بين الدليلين المتعارضين متعدّدة، و التعادل لا يكون إلّا في فرضٍ واحد، و هو فرض فقدان كلّ المرجّحات. و الغرض من هذا البحث: بيان أحكام التعادل بين الدليلين المتعارضين، و بيان أحكام المرجّحات لأحدهما على الآخر.

و من هنا نعرف أنّ الأنسب أن تُعنون المسألة بعنوان «التعارض بين الأدلّة» لأنّ التعادل و الترجيح بين الأدلّة إنّما يُفرض في مورد التعارض بينهما، غير أنّه لمّا كان همّ الاصوليّين في البحث و غايتهم منه معرفة كيفيّة العمل بالادلّة المتعارضة عند تعادلها و ترجيحها عنونوها بما ذكرناه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 211

و هذه المسألة- كما ذكرناه سابقاً- أليق شي‏ءٍ بها مباحث الحجّة لأنّ نتيجتها تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي عند التعارض بين الأدلّة.

و قبل الشروع في بيان أحكام التعارض ينبغي في:

المقدّمة:

بيان امورٍ يحتاج إليها، مثل حقيقة التعارض و شروطه، و قياسه بالتزاحم و الحكومة و الورود. و مثل القواعد العامّة في الباب، فنقول:

1- حقيقة التعارض:

التعارض: مصدر من باب «التفاعل» الّذي يقتضى فاعلين، و لا يقع إلّا من جانبين، فيقال: تعارض الدليلان. و لا تقول: «تعارض الدليل» و تسكت.

وعليه، فلا بدّ من فرض دليلين كلّ منهما يعارض الآخر.

و معنى المعارضة: أنّ كلّاً منهما- إذا تمّت مقوّمات حجّيته- يبطل الآخر و يكذّبه. و التكاذب إمّا أن يكون في جميع مدلولاتهما و نواحي الدلالة فيهما، و إمّا في بعض النواحي على وجهٍ لا يصحّ فرض بقاء حجّية كلّ منهما مع فرض بقاء حجّية الآخر و لا يصحّ العمل بهما معاً.

فمرجع التعارض في الحقيقة إلى التكاذب بين الدليلين في ناحيةٍ ما، أي أنّ كلّاً منهما يكذّب الآخر، و لا يجتمعان على الصدق.

هذا هو المعنى الاصطلاحي للتعارض. و هو مأخوذ من «عارَضَه» أي جانَبَه و عدل عنه.

2- شروط التعارض:

و لا يتحقّق هذا المعنى من التعارض إلّا بشروط سبعة هي مقوّمات التعارض، نذكرها لتتّضح حقيقة التعارض و مواقعه:

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 212

1- ألّا يكون أحد الدليلين أو كلّ منهما قطعيّاً، لأنّه لو كان أحدهما قطعيّاً فإنّه يُعلم منه كذب الآخر، و المعلوم كذبه لا يعارض غيرَه. و أمّا القطع بالمتنافيين ففي نفسه أمر مستحيل لا يقع.

2- ألّا يكون الظنّ الفعلي معتبراً في حجّيتهما معاً، لاستحالة حصول الظن الفعلي بالمتكاذبين كاستحالة القطع بهما. نعم، يجوز أن يعتبر في أحدهما المعيّن الظنّ الفعلي دون الآخر.

3- أن يتنافى مدلولاهما و لو عرضاً و في بعض النواحي، ليحصل التكاذب بينهما، سواء كان التنافي في مدلولهما المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي. و الجامع في ذلك أن يؤدّيا إلى ما لا يمكن تشريعه و يمتنع جعله في نفس الأمر، و لو كان هذا الامتناع لأمرٍ خارج عن نفس مدلولهما، كما في تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، فإنّ الدليلين في نفسهما لا تكاذب بينهما، إذ لا يمتنع اجتماع وجوب صلاتين في وقتٍ واحد، و لكن لمّا عُلم من دليلٍ خارج أنّه «لا تجب إلّا صلاة واحدة في الوقت الواحد» فإنّهما يتكاذبان حينئذٍ بضميمة هذا الدليل الثالث الخارج عنهما. و على هذا، يمكن تحديد الضابط للتعارض بأن يقال:

الضابط في التعارض: امتناع اجتماع مدلوليهما في الوعاء المناسب لهما إمّا من ناحيةٍ تكوينيّة أو من ناحيةٍ تشريعيّة.

أو يقال بعبارة جامعة:

الضابط في التعارض: تكاذب الدليلين على وجهٍ يمتنع اجتماع صدق أحدهما مع صدق الآخر.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 213

و من هنا يُعلم: أنّ التعارض ليس وصفاً للمدلولين كما قيل‏ «1» بل المدلولان يوصفان بأنّهما «متنافيان» لا «متعارضان». و إنّما التعارض وصف للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين لا يجتمعان، لأنّ امتناع صدق الدليلين معاً و تكاذبهما إنّما ينشأ من تنافي المدلولين.

و لأجل هذا قال صاحب الكفاية: «التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة و مقام الإثبات» «2». فحصر التعارض في مقام الإثبات و مرحلة الدلالة.

4- أن يكون كلّ من الدليلين واجداً لشرائط الحجّية، بمعنى أنّ كلّاً منهما لو خُلّي و نفسَه و لم يحصل ما يعارضه لكان حجّة يجب العمل بموجبه، و إن كان أحدهما لا على التعيين بمجرّد التعارض يسقط عن الحجّية بالفعل.

و السرّ في ذلك واضح، فإنّه لو كان أحدهما غير واجد لشرائط الحجّية في نفسه لا يصلح أن يكون مكذّباً لما هو حجّة و إن كان منافياً في مدلوله، فلا يكون معارضاً له، لما قلنا: من أنّ التعارض وصف للدالّين بما هما دالّان في مقام الإثبات، و إذ لا إثبات فيما هو غير حجّة فلا يكذّب ما فيه الإثبات. إذاً، لا تعارض بين الحجّة و اللاحجّة، كما لا تعارض بين اللاحجّتين.

و من هنا يتّضح أنّه لو كان هناك خبر- مثلًا- غير واجد لشرائط الحجّة و اشتبه بما هو واجد لها، فإنّ الخبرين لا يدخلان في باب التعارض، فلا تجري عليهما أحكامه و قواعده، و إن كان من جهة العلم‏

______________________________ (1) راجع نهاية الدراية: ج 6 ص 272.

(2) كفاية الاصول: ص 496.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 214

بكذب أحدهما حالهما حال المتعارضين. نعم، في مثل هذين الخبرين تجري قواعد العلم الإجمالي.

5- ألّا يكون الدليلان متزاحمين، فإنّ للتعارض قواعد غير قواعد التزاحم على ما يأتي، و إن كان المتعارضان يشتركان مع المتزاحمين في جهةٍ واحدة، و هي امتناع اجتماع الحكمين في التحقّق في موردهما، و لكن الفرق في جهة الامتناع، فإنّه في التعارض من جهة التشريع فيتكاذب الدليلان، و في التزاحم من جهة الامتثال فلا يتكاذبان. و لا بدّ من إفراد بحث مستقلّ في بيان الفرق، كما سيأتي.

6- ألّا يكون أحد الدليلين حاكماً على الآخر.

7- ألّا يكون أحدهما وارداً على الآخر.

و سيأتي أنّ الحكومة و الورود يرفعان التعارض و التكاذب بين الدليلين. و لا بدّ من إفراد بحث عنهما أيضاً، فإنّه أمر أساسي في تحقيق التعارض و فهمه‏ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏3 ؛ ص214

3- الفرق بين التعارض و التزاحم:

تقدّم (في 2/ 384) بيان الحقّ الّذي ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفرقة بين بابي التعارض و التزاحم، ثمّ بينهما و بين باب اجتماع الأمر و النهي. و خلاصته: أنّ التعارض في خصوص مورد العامّين من وجه إنّما يحصل حيث تكون لكلّ منهما دلالة التزاميّة على نفي حكم الآخر في مورد الاجتماع بينهما، فيتكاذبان من هذه الجهة. و أمّا إذا لم يكن للعامّين من وجه مثل هذه الدلالة الالتزاميّة فلا تعارض بينهما، إذ لا تكاذب بينهما في مقام الجعل و التشريع.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 215

و حينئذٍ- أي حينما يفقدان تلك الدلالة الالتزاميّة- لو امتنع على المكلّف أن يجمع بينهما في الامتثال- لأيّ سبب من الأسباب- فإنّ الأمر في مقام الامتثال يدور بينهما بأن يمتثل إمّا هذا أو ذاك. و هنا يقع التزاحم بين الحكمين، و طبعاً إنّما يُفرض ذلك فيما إذا كان الحكمان إلزاميّين.

و من أجل هذا قلنا في الشرط الخامس من شروط التعارض: إنّ امتناع اجتماع الحكمين في التحقّق إذا كان في مقام التشريع دخل الدليلان في باب التعارض، لأنّهما حينئذ يتكاذبان. أمّا إذا كان الامتناع في مقام الامتثال دخلا في باب التزاحم، إذ لا تكاذب حينئذٍ بين الدليلين.

و هذا هو الفرق الحقيقي بين باب التعارض و باب التزاحم في أيّ موردٍ يُفرض.

و ينبغي ألّا يغيب عن بال الطالب أنّه حينما ذكرنا العامّين من وجه فقط في مقام التفرقة بين البابين- كما تقدّم في الجزء الثاني- لم نذكره لأجل اختصاص البابين بالعامّين من وجه، بل لأنّ العامّين من وجه موضع شبهة عدم التفرقة بين البابين ثمّ بينهما و بين باب اجتماع الأمر و النهي. و قد سبق تفصيل ذلك هناك، فراجع‏ «1».

وعليه، فالضابط في التفرقة بين البابين- كما أشرنا إليه أكثر من مرّة- هو أنّ الدليلين يكونان «متعارضين» إذا تكاذبا في مقام التشريع، و يكونان «متزاحمين» إذا امتنع الجمع بينهما في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع.

و في تعارض الأدلّة قواعد للترجيح ستأتي، و قد عُقد هذا الباب لأجلها، و ينحصر الترجيح فيها بقوّة السند أو الدلالة.

______________________________ (1) راجع ج 2 ص 384.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 216

و أمّا التزاحم فله قواعد اخرى تتّصل بالحكم نفسه و لا ترتبط بالسند أو الدلالة. و لا ينبغي أن يخلو كتابنا من الإشارة إليها. و هذه خير مناسبةٍ لذكرها، فنقول:

4- تعادل و تراجيح المتزاحمين:

لا شكّ في أنّه إذا تعادل المتزاحمان في جميع جهات الترجيح الآتية، فإنّ الحكم فيهما هو التخيير. و هذا أمر محلّ اتّفاق، و إن وقع الخلاف في تعادل المتعارضين أنّه يقتضي التساقط أو التخيير، على ما سيأتي.

و في الحقيقة: أنّ هذا التخيير إنّما يحكم به العقل، و المراد به العقل العملي.

بيان ذلك: أنّه بعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين و عدم جواز تركهما معاً- و لا مرجّح لأحدهما على الآخر حسب الفرض و يستحيل الترجيح بلا مرجّح- فلا مناص من أن يُترك الأمر إلى اختيار المكلّف نفسه، إذ يستحيل بقاء التكليف الفعلي في كلّ منهما، و لا موجب لسقوط التكليف فيهما معاً. و هذا الحكم العقلي ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء.

و من هذا الحكم العقلي يُستكشف حكم الشرع على طبق هذا الحكم العقلي- كسائر الأحكام العقلية القطعيّة- لأنّ هذا من باب المستقلّات العقليّة الّتي تبتني على الملازمات العقليّة المحضة.

مثاله: إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين متساويين من جميع الجهات لا ترجيح لاحدهما على الآخر شرعاً من جهة وجوب الإنقاذ، فإنّه لا مناص للمكلّف من أن يفعل أحدهما و يترك الآخر، فهو على التخيير عقلًا بينهما المستكشف منه رضى الشارع بذلك و موافقته على التخيير.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 217

إذا عرفت ذلك، فيكون من المهمّ جدّاً أن نعرف ما هي المرجّحات في باب التزاحم. و من الواضح: أنّه لا بدّ أن تنتهي كلّها إلى أهمّية أحد الحكمين عند الشارع، فالأهمّ عنده هو الأرجح في التقديم. و لمّا كانت الأهميّة تختلف جهتها و منشؤها فلا بدّ من بيان تلك الجهات، و هي تُستكشف بامورٍ نذكرها على الاختصار:

1- أن يكون أحد الواجبين لا بدل له مع كون الواجب الآخر المزاحم له ذا بدل، سواء كان البدل اختياريّاً كخصال الكفّارة، أو اضطراريّاً كالتيمّم بالنسبة إلى الوضوء، و كالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة. و لا شكّ في أنّ ما لا بدل له أهمّ ممّا له البدل قطعاً عند المزاحمة و إن كان البدل اضطراريّاً، لأنّ الشارع قد رخّص في ترك ذي البدل إلى بدله الاضطراري عند الضرورة و لم يرخّص في ترك ما لا بدل له، و لا شكّ في أنّ تقديم ما لا بدل له جمعٌ بين التكليفين في الامتثال، دون صورة تقديم ذي البدل، فإنّ فيه تفويتاً للأوّل بلا تدارك.

2- أن يكون أحد الواجبين مضيَّقا أو فوريّاً، مع كون الواجب الآخر المزاحم له موسَّعاً، فإنّ المضيّق أو الفوري أهمّ من الموسّع قطعاً، كدوران الأمر بين إزالة النجاسة عن المسجد و إقامة الصلاة في سعة وقتها.

و هذا الثاني ينسق على الأوّل، لأنّ الموسّع له بدل طولي اختياري دون المضيّق و الفوري، فتقديم المضيّق أو الفوري جمع بين التكليفين في الامتثال دون تقديم الموسّع فإنّ فيه تفويتاً للتكليف بالمضيّق أو الفوري بلا تدارك.

و مثله ما لو دار الأمر بين المضيّق و الفوري كدوران الأمر بين الصلاة في آخر وقتها و إزالة النجاسة عن المسجد، فإنّ الصلاة مقدّمة إذ لا تدارك لها. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 218

3- أن يكون أحد الواجبين صاحب الوقت المختصّ دون الآخر و كان كلّ منهما مضيّقاً، كما لو دار الأمر بين أداء الصلاة اليوميّة في آخر وقتها و بين صلاة الآيات في ضيق وقتها، لأنّ الوقت لمّا كان مختصّاً باليوميّة فهي أولى به عند مزاحمتها بما لا اختصاص له في أصل تشريعه بالوقت المعيّن و إنّما اتّفق حصول سببه في ذلك الوقت و تضيَّق وقتُ أدائه.

و مسألة تقديم اليوميّة على صلاة الآيات إذا تضيّق وقتهما معاً أمر إجماعي متّفق عليه، و لا منشأ له إلّا أهميّة ذات الوقت المختصّ المفهومة من بعض الروايات.

4- أن يكون أحد الواجبين وجوبه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة دون الآخر. و المراد من «القدرة الشرعيّة» هي القدرة المأخوذة في لسان الدليل شرطاً للوجوب، كالحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة و نحوه.

و مع فرض المزاحمة بينه و بين واجبٍ آخر وجوبه غير مشروط بالقدرة لا يحصل العلم بتحقّق ما هو شرط في الوجوب، لاحتمال أنّ مزاحمته للواجب الآخر تكون سالبة للقدرة المعتبرة في الوجوب، و مع عدم اليقين بحصول شروط الوجوب لا يحصل اليقين بأصل التكليف، فلا يزاحم ما كان وجوبه منجّزاً معلوماً.

و لو قال قائل: إنّ كلّ واجب مشروط وجوبه بالقدرة عقلًا، إذاً فالواجب الآخر أيضاً مشروط بالقدرة، فأيّ فرقٍ بينهما؟

فالجواب: نحن نسلّم باشتراط كلّ واجب بالقدرة عقلًا، لكنّه لمّا لم تؤخذ القدرة في الواجب الآخر في لسان الدليل، فهو من ناحية الدلالة اللفظيّة مطلق و إنّما العقل هو الّذي يحكم بلزوم القدرة، و يكفي في حصول شرط القدرة العقليّة نفس تمكن المكلّف من فعله و لو مع فرض‏ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 219

المزاحمة، إذ لا شكّ في أنّ المكلّف في فرض المزاحمة قادر و متمكّن من فعل هذا الواجب المفروض، و ذلك بترك الواجب المزاحم له المشروط بالقدرة الشرعيّة.

و الخلاصة: أنّ الواجب الآخر وجوبه منجَّز فعلي لحصول شرطه- و هو القدرة العقليّة- بخلاف مزاحمه المشروط، لما ذكرنا من احتمال أنّ ما اخذ في الدليل قدرة خاصّة لا تشمل هذه القدرة الحاصلة عند المزاحمة، فلا يُحرز تنجّزه و لا تُعلم فعليّته.

وعليه، فيرتفع التزاحم بين الوجوبين من رأس، و يخلو الجوّ للواجب المطلق و إن كان مشروطاً بالقدرة العقليّة.

5- أن يكون أحد الواجبين مقدّماً بحسب زمان امتثاله على الآخر، كما لو دار الأمر بين القيام للركعة المتقدّمة و بين القيام لركعةٍ بعدها، في فرض كون المكلّف عاجزاً عن القيام للركعتين معاً متمكّناً من إحداهما فقط، فإنّه- في هذا الفرض- يكون المتقدّم مستقرّ الوجوب في محلّه لحصول القدرة الفعليّة بالنسبة إليه، فإذا فعله انتفت القدرة الفعليّة بالنسبة إلى المتأخّر، فلا يبقى له مجال.

و لا فرق في هذا الفرض بين ما إذا كانا معاً مشروطين بالقدرة الشرعيّة أو مطلقين معاً. أمّا لو اختلفا فإنّ المطلق مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة و إن كان زمان فعله متأخّراً.

6- أن يكون أحد الواجبين أولى عند الشارع في التقديم من غير تلك الجهات المتقدّمة.

و الأولويّة تُعرف إمّا من الأدلّة، و إمّا من مناسبة الحكم للموضوع، و إمّا من معرفة ملاكات الأحكام بتوسّط الأدلّة السمعيّة. و من أجل ذلك فإنّ‏ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 220

الأولويّة تختلف باختلاف ما يستفاد من هذه الامور، و لا ضابط عامّ يمكن الرجوع إليه عند الشكّ.

فمن تلك الأولويّة: ما إذا كان في الحكم الحفاظ على بيضة الإسلام، فإنّه أولى بالتقديم من كلّ شي‏ءٍ في مقام المزاحمة.

و منها: ما كان يتعلّق بحقوق الناس، فإنّه أولى من غيره من التكاليف الشرعيّة المحضة، أي الّتي لا علاقة لها بحقوق غير المكلّف بها.

و منها: ما كان من قبيل الدماء و الفروج، فإنّه يحافظ عليه أكثر من غيره، لما هو المعروف عند الشارع المقدّس من الأمر بالاحتياط الشديد في أمرها «1». فلو دار الأمر بين حفظ نفس المؤمن و حفظ ماله، فإنّ حفظ نفسه مقدّم على حفظ ماله قطعاً.

و منها: ما كان ركناً في العبادة، فإنّه مقدّم على ما ليس له هذه الصفة عند المزاحمة، كما لو وقع التزاحم في الصلاة بين أداء القراءة و الركوع، فإنّ الركوع مقدّم على القراءة و إن كان زمان امتثاله متأخّراً عن القراءة.

و على مثل هذه فقِسْ ... و أمثالها كثير لا يحصى، كما لو دار الأمر بين الصلح بين المؤمنين بالكذب و بين الصدق و فيه الفتنة بينهم، فإنّ الصلح مقدّم على الصدق. و هذا معروف من ضرورة الشرع الإسلامي.

و مما ينبغي أن يُعلم في هذا الصدد أنّه لو احتمل أهميّة أحد المتزاحمين، فإنّ الاحتياط يقتضي تقديم محتمل الأهميّة. و هذا الحكم العقلي بالاحتياط يجري في كلّ موردٍ يدور فيه الأمر بين التعيين و التخيير في الواجبات.

______________________________ (1) كذا، و المناسب للسياق تذكير الضمير لرجوعه إلى الموصول، بدليل قوله: فإنّه يحافظ عليه أكثر من غيره.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 221

وعليه، فلا يجب إحراز أهميّة أحد المتزاحمين، بل يكفي الاحتمال.

و هذا أصل ينفع كثيراً في الفروع الفقهيّة، فاحتفظ به.

5- الحكومة و الورود:

و هذا البحث من مبتكرات الشيخ الأعظم رحمه الله و قد فتح به باباً جديداً في الاسلوب الاستدلالي، و لئن نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قِبَل غيره- كما يبدو من التعبير بالحكومة و الورود في جواهر الكلام‏ «1»- فإنّه لم يكن بهذا التحديد و السعة اللذين انتهى إليهما الشيخ.

و كان رحمه الله- على ما ينقل عنه- يصرّح بأنّ أساطين الفقه المتقدّمين لم يغفلوا عن مغزى ما كان يرمى إليه و إن لم يبحثوه بصريح القول و لا بهذا المصطلح.

و اللفْتة الكريمة منه كانت في ملاحظته لنوع من الأدلّة، إذ وجد أنّ من حقّها أن تُقدّم على أدلّةٍ اخرى- في حين أنّها ليست بالنسبة إليها من قبيل الخاصّ و العامّ. بل قد يكون بينهما العموم من وجه- و لا يوجب هذا التقديم سقوط الأدلّة الاخرى عن الحجّية، و لا تجري بينهما قواعد التعارض، لأنّه لم يكن بينهما تكاذب بحسب لسانهما من ناحية أدائيّة و لا منافاة، يعني أنّ لسان أحدهما لا يكذّب الآخر و لا يبطله، بل أحدهما المعيّن من حقّه بحسب لسانه و أدائه لمعناه و عنوانه أن يكون مقدّماً على الآخر تقديماً لا يستلزم بطلان الآخر و لا تكذيبه و لا صرفه عن ظهوره.

و هذا هو العجيب في الأمر و الجديد على الباحثين! و ذلك مثل تقديم أدلّة الأمارة على أدلّة الاصول العمليّة بلا إسقاطٍ لحجّية الثانية و لا صَرفٍ لظهورها. ______________________________ (1) لم نقف على موضع التعبير، و لم يتيسّر لنا استقصاء الفحص.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 222

و المعروف أنّ أحد اللامعين من تلامذته‏ «1» التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر قبل أن يتعرّف عليه و قبل أن يُعرف الشيخ بين الناس‏ «2» و سأله سؤال امتهان و اختبار عن سرّ تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور، فقال له: إنّه حاكم عليه. قال: و ما الحكومة؟ فقال له: يحتاج إلى أن تحضر درسي ستّة أشهر على الأقلّ لتفهم معنى الحكومة.

و من هنا ابتدأت علاقة التلميذ باستاذه. إنّ موضوعا يحتاج إلى درس ستّة أشهر [و إن كان فيه نوع من المبالغة] «3» كم يحتاج إلى البسط في البيان في التأليف، بينما أنّ الشيخ في كتبه لم يوفه حقّه من البيان، إلّا بعض الشي‏ء في التعادل و التراجيح، و بعض اللقطات المتفرّقة في غضون كتبه؛ و لذا بقي الموضوع متأرجحاً في كتب الاصوليّين من بعده، و إن كان مقصودهم و مقصوده أصبح واضحاً عند أهل العلم في العصور المتأخّرة.

و لا يسع هذا المختصر شرح هذا الأمر شرحاً كافياً، و إنّما نكتفي بالإشارة إلى خلاصة ما توصّلنا إليه من فهم معنى الحكومة و فهم معنى أخيها «الورود» قدَر الإمكان، فنقول:

1- الحكومة: إنّ الّذي نفهمه من مقصودهم في الحكومة: هو أن يقدّم أحد الدليلين على الآخر تقديم سيطرةٍ و قهرٍ من ناحية أدائيّة، و لذا سُمّيت بالحكومة. فيكون تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ليس من ناحية السند و لا من ناحية الحجّية، بل هما على ما هما عليه من الحجّية بعدَ ______________________________ (1) (*) قيل: هو ميرزا حبيب اللَّه الرشتي.

(2) العبارة في ط الاولى هكذا: و المعروف: أنّ أحد عظماء تلامذته قبل أن يتعرّف عليه و قبل أن يُعرف الشيخ بين الناس التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر.

(3) لم يرد في ط الاولى.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 223

التقديم، أي أنّهما بحسب لسانهما و أدائهما لا يتكاذبان في مدلولهما، فلا يتعارضان. و إنّما التقديم- كما قلنا- من ناحية أدائيّة بحسب لسانهما، و لكن لا من جهة «التخصيص» و لا من جهة «الورود» الآتي معناه.

فأيّ تقديم للدليل على الآخر بهذه القيود فهو يُسمّى «حكومة».

و هذا في الحقيقة هو الضابط لها. فلذلك وجب توضيح الفرق بينها و بين التخصيص من جهةٍ، ثمّ بينها و بين الورود من جهةٍ اخرى، ليتّضح معناها بعض الوضوح:

أمّا الفرق بينها و بين التخصيص، فنقول:

إنّ التخصيص ليكون تخصيصاً لا بدّ أن يُفرض فيه الدليل الخاصّ منافياً في مدلوله للعامّ، و لأجل هذا يكونان متعارضين متكاذبين بحسب لسانهما بالنسبة إلى موضوع الخاصّ، غير أنّه لمّا كان الخاصّ أظهر من العامّ فيجب أن يقدّم عليه لبناء العقلاء على العمل بالخاصّ، فيُستكشف منه أنّ المتكلّم الحكيم لم يرد العموم من العامّ و إن كان ظاهر اللفظ العموم و الشمول، لحكم العقل بقبح ذلك من الحكيم مع فرض العمل بالخاصّ عند أهل المحاورة من العقلاء.

وعليه، فالتخصيص عبارة عن الحكم بسلب حكم العامّ عن الخاصّ و إخراج الخاصّ عن عموم العامّ، مع فرض بقاء عموم لفظ العامّ شاملًا للخاصّ بحسب لسانه و ظهوره الذاتي.

أمّا الحكومة: في بعض مواردها هي كالتخصيص بالنتيجة، من جهة خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم مدلول الآخر، و لكن الفرق في كيفيّة الإخراج، فإنّه في التخصيص إخراج حقيقي مع بقاء الظهور الذاتي للعموم في شموله، و في الحكومة إخراج تنزيلي على وجهٍ لا يبقى ظهور

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 224

ذاتي للعموم في الشمول، بمعنى أنّ الدليل الحاكم يكون لسانه تحديد موضوع الدليل المحكوم أو محموله تنزيلًا و ادّعاءً، فلذلك يكون الحاكم متصرّفاً في عقد الوضع أو عقد الحمل في الدليل المحكوم.

و نستعين على بيان الفرق بالمثال، فنقول: لو قال الآمر عقيب أمره بإكرام العلماء: «لا تكرم الفاسق» فإنّ القول الثاني يكون مخصّصاً للأوّل، لأنّه ليس مفاده إلّا عدم وجوب إكرام الفاسق مع بقاء صفة العالم له. أمّا لو قال عقيب أمره: «الفاسق ليس بعالم» فإنّه يكون حاكماً على الأوّل، لأنّ مفاده إخراج الفاسق عن صفة العالم تنزيلًا، بتنزيل الفسق منزلةَ الجهل أو علم الفاسق بمنزلة عدم العلم. و هذا تصرّف في عقد الوضع، فلا يبقى عموم لفظ «العلماء» شاملًا للفاسق بحسب هذا الادّعاء و التنزيل، و بالطبع لا يعطى له حينئذٍ حكم العلماء من وجوب الإكرام و نحوه.

و مثاله في الشرعيّات قوله عليه السلام: «لا شكّ لكثير الشكّ» «1» و نحوه مثل نفي شكّ المأموم مع حفظ الإمام و بالعكس، فإنّ هذا و نحوه يكون حاكماً على أدلّة حكم الشك، لأنّ لسانه إخراج شكّ «كثير الشكّ» و شكّ المأموم أو الامام عن حضيرة صفة الشكّ تنزيلًا، فمن حقّه حينئذٍ ألّا يعطى له أحكام الشكّ من نحو إبطال الصلاة أو البناء على الأكثر أو الأقلّ أو غير ذلك.

و إنّما قلنا: «الحكومة في بعض مواردها كالتخصيص» فلأنّ بعض موارد الحكومة الاخرى عكس التخصيص، لأنّ الحكومة على قسمين:

قسم يكون التصرّف فيها بتضييق الموضوع- كالأمثلة المتقدّمة- و قسم‏

______________________________ (1) الظاهر عدم وروده في النصوص بهذا اللفظ، راجع الوسائل: ج 5 ص 329، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 225

بتوسعته، مثل ما لو قال عقيب الأمر بإكرام العلماء: «المتّقي عالم» فإنّ هذا يكون حاكماً على الأوّل و ليس فيه إخراج، بل هو تصرّف في الموضوع بتوسعة معنى العالم ادّعاءً إلى ما يشمل «المتّقي» تنزيلًا للتقوى منزلة العلم، فيعطى للمتّقي حكم العلماء من وجوب الإكرام و نحوه.

و مثاله في الشرعيّات: «الطواف صلاة» «1» فإنّ هذا التنزيل يعطي للطواف الأحكام المناسبة الّتي تخصّ الصلاة من نحو أحكام الشكوك.

و مثله: «لحمة الرضاع كلحمة النسب» «2» الموسِّع لموضوع أحكام النسب.

2- الورود: و أمّا الفرق بين الحكومة و بين الورود، فنقول:

كما قلنا: إنّ الحكومة كالتخصيص في النتيجة، كذلك الورود كالتخصّص في النتيجة، لأنّ كلّاً من الورود و التخصّص: خروج الشي‏ء بالدليل عن موضوع دليل آخر خروجاً حقيقيّاً. و لكن الفرق أنّ الخروج في التخصّص خروج بالتكوين بلا عناية التعبّد من الشارع، كخروج الجاهل عن موضوع دليل «أكرم العلماء» فيقال: إنّ الجاهل خارج عن عموم «العلماء» تخصّصاً. و أمّا في الورود فإنّ الخروج من الموضوع بنفس التعبّد من الشارع بلا خروج تكويني، فيكون الدليل الدالّ على التعبّد وارداً على الدليل المثبت لحكم موضوعه.

مثاله: دليل الأمارة الوارد على أدلّة الاصول العقليّة، كالبراءة و قاعدة الاحتياط و قاعدة التخيير، فإنّ البراءة العقليّة لمّا كان موضوعها «عدم البيان» الّذي يحكم فيه العقل بقبح العقاب معه، فالدليل الدالّ على حجّية

______________________________ (1) سنن الدارمي: ج 2 ص 44.

(2) لم نعثر عليه في أبواب الرضاع في الوسائل و غيره، روى في البحار عن المجازات النبويّة عنه صلى الله عليه و آله: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع و لا يوهب» بحار الأنوار: ج 104 ص 360، ح 4.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 226

الأمارة يعتبر الأمارة بياناً تعبّداً، و بهذا التعبّد يرتفع موضوع البراءة العقليّة و هو «عدم البيان».

و هكذا الحال في قاعدتي الاحتياط و التخيير، فإنّ موضوع الاولى «عدم المؤمِّن من العقاب» و الأمارة بمقتضى دليل حجّيتها مؤمّنة منه، و موضوع الثانية «الحيرة» في الدوران بين المحذورين، و الأمارة بمقتضى دليل حجّيتها مرجّحة لأحد الطرفين، فترتفع الحيرة.

و بهذا البيان لمعنى «الورود» يتّضح الفرق بينه و بين «الحكومة» فإنّ ورود أحد الدليلين باعتبار كون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر حقيقة و لكن بعناية التعبّد، فيكون الأوّل وارداً على الثاني. أمّا الحكومة فإنّها لا توجب خروج مدلول الحاكم عن موضوع مدلول المحكوم وجداناً و على وجه الحقيقة، بل الخروج فيها إنّما يكون حكمياً و تنزيليّاً و بعناية ثبوت المتعبّد به اعتباراً.

6- القاعدة في المتعارضين التساقط أو التخيير:

أشرنا فيما تقدّم (ص 216) إلى أنّ القاعدة في التعادل بين المتزاحمين هو التخيير بحكم العقل، و ذلك محل وفاق. أمّا في تعادل المتعارضين فقد وقع الخلاف في أنّ القاعدة هي التساقط أو التخيير؟

و الحقّ أنّ القاعدة الأوّلية هي التساقط، وعليه أساتذتنا المحقّقون، و إن دلّ الدليل من الأخبار على التخيير كما سيأتي. و نحن نتكلّم في القاعدة بناءً على المختار: من أنّ الأمارات مجعولة على نحو الطريقيّة.

و لا حاجة للبحث عنها بناءً على السببية، فنقول:

إنّ الدليل الّذي يوهم لزوم التخيير هو: أنّ التعارض لا يقع بين الدليلين إلّا إذا كان كلّ منهما واجداً لشرائط الحجّية، كما تقدّم في شروط

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 227

التعارض (ص 213) و التعارض أكثر ما يوجب سقوط أحدهما غير المعيّن عن الحجّية الفعليّة لمكان التكاذب بينهما، فيبقى الثاني غير المعيّن على ما هو عليه من الحجّية الفعليّة واقعاً، و لمّا لم يمكن تعيينه و المفروض أنّ الحجّة الفعليّة منجّزة للتكليف يجب العمل بها، فلا بدّ من التخيير بينهما.

و الجواب: أنّ التخيير المقصود إمّا أن يراد به التخيير من جهة الحجّية، أو من جهة الواقع.

فإن كان الأوّل:

فلا معنى لوجوب التخيير بين المتعارضين، لأن دليل الحجّية الشامل لكلّ منهما في حدّ أنفسهما إنّما مفاده حجّية أفراده على نحو التعيين، لا حجّية هذا أو ذاك من أفراده لا على التعيين، حتّى يصحّ أن يُفرض أنّ أحدهما غير المعيّن حجّة يجب الأخذ به فعلًا فيجبَ التخيير في تطبيق دليل الحجّية على ما يشاء منهما.

و بعبارة اخرى: إنّ دليل الحجّية الشامل لكلّ منهما في حدّ نفسه إنّما يدلّ على وجود المقتضي للحجّية في كلٍّ منهما لو لا المانع، لا فعليّة الحجّية. و لمّا كان التعارض يقتضي تكاذبهما فلا محالة يسقط أحدهما غير المعيّن عن الفعليّة، أي يكون كلّ منهما مانعاً عن فعليّة حجّية الآخر.

و إذا كان الأمر كذلك فكلّ منهما لم تتمّ فيه مقوّمات الحجّية الفعليّة ليكون منجّزاً للواقع يجب العمل به، فلا يكون أحدهما غير المعيّن يجب الأخذ به فعلًا حتّى يجب التخيير، بل حينئذٍ يتساقطان، أي أنّ كلّاً منهما يكون ساقطاً عن الحجّية الفعليّة و خارجاً عن دليل الحجّية.

و إن كان الثاني، فنقول:

أوّلًا: لا يصحّ أن يُفرض التخيير من جهة الواقع إلّا إذا عُلم بإصابة

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 228

أحدهما للواقع. و لكن ليس ذلك أمراً لازماً في الحجّتين المتعارضتين، إذ يجوز فيهما أن يكونا معاً كاذبتين، و إنّما اللازم فيهما من جهة التعارض هو العلم بكذب أحدهما، لا العلم بمطابقة أحدهما للواقع. و على هذا فليس الواقع محرزاً في أحدهما حتّى يجب التخيير بينهما من أجله.

و ثانياً: على تقدير حصول العلم بإصابة أحدهما غير المعيّن للواقع، فإنّه أيضاً لاوجه للتخيير بينهما، إذ لاوجه للتخيير بين الواقع و غيره.

و هذا واضح.

و غاية ما يقال: إنّه إذا حصل العلم بمطابقة أحدهما للواقع فانّ الحكم الواقعي يتنجّز بالعلم الإجمالي، و حينئذٍ يجب إجراء قواعد العلم الإجمالي فيه. و لكن لا يرتبط حينئذٍ بمسألتنا- و هي مسألة: أنّ القاعدة في المتعارضين هو التساقط أو التخيير- لأنّ قواعد العلم الإجمالي تجري حينئذٍ حتّى مع العلم بعدم حجّية الدليلين معاً. و قد يقتضي العلم الإجمالي في بعض الموارد التخيير، و قد يقتضي الاحتياط في البعض الآخر، على اختلاف الموارد.

إذا عرفت ذلك فيتحصّل: أنّ القاعدة الأوّليّة بين المتعارضين هو التساقط مع عدم حصول مزيّةٍ في أحدهما تقتضي الترجيح.

أمّا لو كان الدليلان المتعارضان يقتضيان معاً نفي حكمٍ ثالثٍ فهل مقتضى تساقطهما عدم حجّيتهما في نفي الثالث؟

الحقّ أنّه لا يقتضي ذلك، لأنّ المعارضة بينهما أقصى ما تقتضي سقوط حجّيتهما في دلالتهما فيما هما متعارضان فيه، فيبقيان في دلالتهما الاخرى على ما هما عليه من الحجّية، إذ لا مانع من شمول أدلّة الحجّية لهما معاً في ذلك. و قد سبق أن قلنا: إنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 229

المطابقيّة في أصل الوجود لا في الحجّية، فلا مانع من أن يكون الدليل حجّة في دلالته الالتزاميّة مع وجود المانع عن حجّيته في الدلالة المطابقيّة. هذا فيما إذا كانت إحدى الدلالتين تابعة للُاخرى في الوجود، فكيف الحال في الدلالتين اللتين لا تبعيّة بينهما في الوجود! فإنّ الحكم فيه بعدم سقوط حجّية إحداهما بسقوط الاخرى أولى.

7- الجمع بين المتعارضين أولى من الطرح:

اشتهر بينهم: أنّ الجمع بين المتعارضين مهما أمكن أولى من الطرح.

و قد نقل عن «غوالي اللئالي» دعوى الإجماع على هذه القاعدة «1».

و ظاهر أنّ المراد من «الجمع» الّذي هو أولى من «الطرح» هو الجمع في الدلالة، فإنّه إذا كان الجمع بينهما في الدلالة ممكناً تلاءما فيرتفع التعارض بينهما، فلا يتكاذبان.

و تشمل القاعدة بحسب ذلك صورةَ تعادل المتعارضين في السند، و صورةَ ما إذا كانت لأحدهما مزيّة تقتضي ترجيحه في السند، لأنّه في الصورة الثانية بتقديم ذي المزيّة يلزم طرح الآخر مع فرض إمكان الجمع.

وعليه، فمقتضى القاعدة مع إمكان الجمع عدم جواز طرحهما معاً على القول بالتساقط، و عدم طرح أحدهما غير المعيّن على القول بالتخيير، و عدم طرح أحدهما المعيّن غير ذي المزيّة مع الترجيح.

و من أجل هذا تكون لهذه القاعدة أهمّيّة كبيرة في العمل بالمتعارضين، فيجب البحث عنها من ناحية مدركها، و من ناحية عمومها لكلّ جمعٍ حتّى الجمع التبرّعي.

______________________________ (1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 136.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 230

1- أمّا من الناحية الاولى: فمن الظاهر أنّه لا مدرك لها إلّا حكم العقل بأولويّة الجمع، لأنّ التعارض لا يقع إلّا مع فرض تماميّة مقوّمات الحجّية في كلّ منهما من ناحية السند و الدلالة، كما تقدّم في الشرط الرابع من شروط التعارض (ص 213) و مع فرض وجود مقوّمات الحجّية- أي وجود المقتضي للحجّية- فإنّه لا وجه لرفع اليد عن ذلك إلّا مع وجود مانعٍ من تأثير المقتضي، و ما المانع في فرض التعارض إلّا تكاذبهما. و مع فرض إمكان الجمع في الدلالة بينهما لا يُحرز تكاذبهما، فلا يحرز المانع عن تأثير مقتضى الحجّية فيهما، فكيف يصحّ أن نحكم بتساقطهما أو سقوط أحدهما؟

2- و أمّا من الناحية الثانية: فإنّا نقول: إنّ المراد من «الجمع التبرّعي» ما يرجع إلى التأويل الكيفي الّذي لا يساعد عليه عرف أهل المحاورة و لا شاهد عليه من دليلٍ ثالث.

و قد يظنّ الظانّ أنّ إمكان الجمع التبرّعي يحقّق هذه القاعدة، و هي أولويّة الجمع من الطرح بمقتضى التقرير المتقدّم في مدركها، إذ لا يُحرز المانع- و هو تكاذب المتعارضين- حينئذٍ، فيكون الجمع أولى.

و لكن يجاب عن ذلك: انّه لو كان مضمون هذه القاعدة المجمع عليها ما يشمل الجمع التبرّعي فلا يبقى هناك دليلان متعارضان و للزم طرح كلّ ما ورد في باب التعارض من الأخبار العلاجيّة إلّا فيما هو نادر ندرة لا يصحّ حمل الأخبار عليها، و هو صورة كون كلّ من المتعارضين نصّاً في دلالته لا يمكن تأويله بوجهٍ من الوجوه. بل ربما يقال: لا وجود لهذه الصورة في المتعارضين.

و ببيان آخر برهاني نقول: إنّ المتعارضين لا يخلوان عن حالات‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 231

أربع: إمّا أن يكونا مقطوعي الدلالة مظنوني السند، أو بالعكس- أي يكونان مظنوني الدلالة مقطعوعي السند- أو يكون أحدهما مقطوع الدلالة مظنون السند و الآخر بالعكس، أو يكونان مظنوني الدلالة و السند معاً. أمّا فرض أحدهما أو كلّ منهما مقطوع الدلالة و السند معاً، فإنّ ذلك يخرجهما عن كونهما متعارضين، بل الفرض الثاني مستحيل كما تقدّم (ص 212). وعليه، فللمتعارضين أربع حالات ممكنة لا غيرها:

فإن كانت الاولى: فلا مجال فيها للجمع في الدلالة مطلقاً، للقطع بدلالة كلّ منهما، فهو خارج عن مورد القاعدة رأساً كما أشرنا إليه. بل هما في هذه الحالة: إمّا أن يرجع فيهما إلى الترجيحات السندية، أو يتساقطان حيث لا مرجّح، أو يتخيّر بينهما.

و إن كانت الثانية: فإنّه مع القطع بسندهما كالمتواترين أو الآيتين القرآنيتين لا يُعقل طرحهما أو طرح أحدهما من ناحية السند، فلم يبقَ إلّا التصرّف فيهما من ناحية الدلالة. و لا يُعقل جريان أصالة الظهور فيهما معاً، لتكاذبهما في الظهور. و حينئذٍ فإن كان هناك جمع عرفي بينهما بأن يكون أحدهما المعيّن قرينة على الآخر أو كلّ منهما قرينة على التصرّف في الآخر- على نحو ما يأتي من بيان وجوه الجمع الدلالتي- فإنّ هذا الجمع في الحقيقة يكون هو الظاهر منهما، فيدخلان بحسبه في باب الظواهر ويتعيّن الأخذ بهذا الظهور. و إن لم يكن هنا جمع عرفي فإنّ الجمع التبرّعي لا يجعل لهما ظهوراً فيه ليدخل في باب الظواهر و يكونَ موضعاً لبناء العقلاء و لا دليل في المقام غير بناء العقلاء على الأخذ بالظواهر، فما الّذي يصحّح الأخذ بهذا التأويل التبرّعي و يكون دليلًا على حجّيته؟

و غاية ما يقتضي تعارضهما عدم إرادة ظهور كلّ منهما، و لا يقتضي أن‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 232

يكون المراد غير ظاهرهما من الجمع التبرّعي، فإنّ هذا يحتاج إلى دليل يعيّنه و يدلّ على حجّيتهما فيه، و لا دليل حسب الفرض.

و إن كانت الثالثة: فإنّه يدور الأمر فيها بين التصرّف في سند مظنون السند و بين التصرّف في ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معاً، فإن كان مقطوع الدلالة صالحاً للتصرّف بحسب عرف أهل المحاورة في ظهور الآخر تعيّن ذلك، إذ يكون قرينة على المراد من الآخر، فيدخل بحسبه في الظواهر الّتي هي حجّة. و أمّا إذا لم يكن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحيّة فإنّ تأويل الظاهر تبرّعاً لا يدخل في الظاهر حينئذٍ ليكون حجّة ببناء العقلاء، و لا دليل آخر عليه- كما تقدّم في الصورة الثانية- ويتعيّن في هذا الفرض طرح هذين الدليلين: طرح مقطوع الدلالة من ناحية السند، و طرح مقطوع السند من ناحية الدلالة. فلا يكون الجمع أولى، إذ ليس إجراء دليل أصالة السند بأولى من دليل أصالة الظهور، و كذلك العكس. و لا معنى في هذه الحالة للرجوع إلى المرجّحات في السند مع القطع بسند أحدهما، كما هو واضح.

و إن كانت الرابعة: فإنّ الأمر يدور فيها بين التصرّف في أصالة السند في أحدهما و التصرّف في أصالة الظهور في الآخر، لا أنّ الأمر يدور بين السندين و لا بين الظهورين. و السرّ في هذا الدوران: أنّ دليل حجّية السند يشملهما معاً على حدّ سواء بلا ترجيح لأحدهما على الآخر حسب الفرض، و كذلك دليل حجّية الظهور. و لمّا كان يمتنع اجتماع ظهورهما لفرض تعارضهما، فإذا أردنا أن نأخذ بسندهما معاً لا بدّ أن نحكم بكذب ظهور أحدهما، فيصادم حجّيةُ سند أحدهما حجّيةَ ظهور الآخر. و كذلك إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معاً لا بدّ أن نحكم بكذب سند أحدهما،

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 233

فيصادم حجّيةُ ظهور أحدهما حجّيةَ سند الآخر، فيرجع الأمر في هذه الحالة إلى الدوران بين حجّية سند أحدهما و حجّية ظهور الآخر.

و إذا كان الأمر كذلك فليس أحدهما أولى من الآخر، كما تقدّم.

نعم، لو كان هناك جمع عرفي بين ظهوريهما فإنّه حينئذٍ لا تجري أصالة الظهور فيهما على حدّ سواء، بل المتّبع في بناء العقلاء ما يقتضيه الجمع العرفي الّذي يقتضي الملاءمة بينهما، فلا يصلح كلّ منهما لمعارضة الآخر.

و من هنا نقول: إنّ الجمع العرفي أولى من الطرح. بل بالجمع العرفي يخرجان عن كونهما متعارضين- كما سيأتي- فلا مقتضي لطرح أحدهما أو طرحهما معاً.

أمّا إذا لم يكن بينهما جمع عرفي، فإنّ الجمع التبرّعي لا يصلح للملاءمة بين ظهوريهما، فتبقى أصالة الظهور حجّة في كلّ منهما، فيبقيان على ما هما عليه من التعارض، فإمّا أن يقدّم أحدهما على الآخر لمزيّةٍ أو يتخيّر بينهما أو يتساقطان.

فتحصّل من ذلك كلّه: أنّه لا مجال للقول بأولويّة الجمع التبرّعي من الطرح في كلّ صورة مفروضة للمتعارضين.

إذا عرفت ما ذكرناه من الامور- في المقدّمة- فلنشرع في المقصود.

و الامور الّتي ينبغي أن نبحثها ثلاثة: الجمع العرفي، و القاعدة الثانويّة في المتعادلين، و المرجّحات السنديّة و ما يتعلّق بها.

الأمر الأوّل الجمع العرفي‏

بمقتضى ما شرحناه في المقدّمة الأخيرة يتّضح أنّ القدر المتيقّن‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 234

من قاعدة «أولويّة الجمع من الطرح» في المتعارضين هو «الجمع العرفي» الّذي سمّاه الشيخ الأعظم ب «الجمع المقبول» «1» و غرضه المقبول عند العرف. و يُسمّى «الجمع الدلالتي».

و في الحقيقة- كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك- أنّه بالجمع العرفي يخرج الدليلان عن التعارض. و الوجه في ذلك: أنّه إنّما نحكم بالتساقط أو التخيير أو الرجوع إلى العلاجات السنديّة حيث تكون هناك حيرة في الأخذ بهما معاً، و في موارد الجمع العرفي لا حيرة و لا تردّد.

و بعبارة أُخرى: أنّه لمّا كان التعبّد بالمتنافيين مستحيلًا، فلا بدّ من ال